الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اَللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِي اَلْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، اَلْمُكَذِّبِينَ بِكَ: أَرَأَيْتُمْ، أَيُّهَا اَلْمُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ غَيْرَهُ، إِنْ أَصَمَّكُمُ اَللَّهُ فَذَهَبَ بِأَسْمَاعِكُمْ، وَأَعْمَاكُمْ فَذَهَبَ بِأَبْصَارِكُمْ، وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ فَطَبَعَ عَلَيْهَا، حَتَّى لَا تَفْقَهُوا قَوْلًا وَلَا تُبْصِرُوا حُجَّةً، وَلَا تَفْهَمُوا مَفْهُومًا، أَيُّ إِلَهٍ غَيْرُ اَللَّهِ اَلَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُلِّ عَابِدٍ " يَأْتِيكُمْ بِهِ "، يَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْكُمْ مَا ذَهَبَ اَللَّهُ بِهِ مِنْكُمْ مِنَ اَلْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْهَامِ، فَتَعْبُدُوهُ أَوْ تُشْرِكُوهُ فِي عِبَادَةِ رَبِّكُمُ اَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَهَابِهِ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، وَعَلَى رَدِّهِ عَلَيْكُمْ إِذَا شَاءَ؟ وَهَذَا مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، تَعْلِيمُ نَبِيِّهِ اَلْحُجَّةَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ بِهِ، يَقُولُ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مَنْ دُونِ اَللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اَلْعِبَادَةَ عَلَيْكُمْ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ اَلضُّرُّ وَالنَّفْعُ، وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، اَلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَ، لَا اَلْعَاجِزُ اَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ} "، يَقُولُ: اُنْظُرْ كَيْفَ نُتَابِعُ عَلَيْهِمُ اَلْحُجَجَ، وَنَضْرِبُ لَهُمُ اَلْأَمْثَالَ وَالْعِبَرَ، لِيَعْتَبِرُوا وَيَذْكُرُوا فَيُنِيبُوا، " {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} "، يَقُولُ: ثُمَّ هُمْ مَعَ مُتَابَعَتِنَا عَلَيْهِمُ اَلْحُجَجَ، وَتَنْبِيهِنَا إِيَّاهُمْ بِالْعِبَرِ، عَنِ الِادِّكَارِ وَالِاعْتِبَارِ يُعْرِضُونَ. يُقَالُ مِنْهُ: " صَدَفَ فُلَانٌ عَنِّي بِوَجْهِهِ، فَهُوَ يَصْدِفُ صُدُوفًا وَصَدَفًا "، أَيْ: عَدَلَ وَأَعْرَضَ، وَمِنْهُ قَوْلُ اِبْنِ اَلرِّقَاعِ: إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ، *** وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ وَقَالَ لَبِيَدٌ: يُرْوِي قَوامِحَ قَبْلَ اللَّيْلِ صَادِفَةً *** أَشْبَاهَ جِنٍّ، عَلَيْهَا الرَّيْطُ وَالْأُزُرُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: " {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} "، فَوَحَّدَ "اَلْهَاءَ "، وَقَدْ مَضَى اَلذِّكْرُ قَبْلُ بِالْجَمْعِ فَقَالَ: " {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اَللَّهُ سَمِعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}"؟ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ "اَلْهَاء" عَائِدَةً عَلَى "اَلسَّمْعِ "، فَتَكُونُ مُوَحَّدَةً لِتَوْحِيد" اَلسَّمْعِ "وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مَعْنِيًّا بِهَا: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِمَا أُخِذَ مِنْكُمْ مِنَ اَلسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ، فَتَكُونُ مُوَحَّدَةٌ لِتَوْحِيد" مَا ". وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، إِذَا كَنَّتْ عَنِ اَلْأَفْعَالِ وَحَّدَتِ اَلْكِنَايَةَ، وَإِنْ كَثُرَ مَا يُكَنَّى بِهَا عَنْهُ مِنَ اَلْأَفَاعِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: " إِقْبَالُكَ وَإِدْبَارُكَ يُعْجِبُنِي ". وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ "اَلْهَاء" اَلَّتِي فِي "بِه" كِنَايَةٌ عَنِ " اَلْهُدَى ". وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " يَصْدِفُونَ "، قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {يَصْدِفُونَ} "، قَالَ: يُعْرِضُونَ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {يَصْدِفُونَ} "، قَالَ: يَعْدِلُونَ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} "، قَالَ: يُعْرِضُونَ عَنْهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} "، قَالَ: يَصُدُّونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا اَلْقَوْمُ اَلظَّالِمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَوْثَانَ، اَلْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّكَ لِي رَسُولٌ إِلَيْهِمْ: أَخْبِرُونِي " {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ} "، وَعِقَابُهُ عَلَى مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّايَ بَعْدَ اَلَّذِي قَدْ عَايَنْتُمْ مِنَ اَلْبُرْهَانِ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِي "بَغْتَةً "، يَقُولُ: فَجْأَةً عَلَى غِرَّةٍ لَا تَشْعُرُون" أَوْ جَهْرَةً "، يَقُولُ: أَوْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ وَأَنْتُمْ تُعَايِنُونَهُ وَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ " {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا اَلْقَوْمُ اَلظَّالِمُونَ} "، يَقُولُ: هَلْ يُهْلِكُ اَللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ مَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْنَا اَلْعِبَادَةَ، وَتَرَكَ عِبَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْنَا اَلْعِبَادَةَ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "اَلْجَهْرَة" فِي غَيْرِ هَذَا اَلْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَأَنَّهَا مِنَ " اَلْإِجْهَارِ "، وَهُوَ إِظْهَارُ اَلشَّيْءِ لِلْعَيْنِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " جَهْرَةً "، قَالَ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ بَغْتَةً} "، فَجْأَةً آمِنِينَ " أَوْ جَهْرَةً "، وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا نُرْسِلُ رُسُلَنَا إِلَّا بِبِشَارَةِ أَهْلِ اَلطَّاعَةِ لَنَا بِالْجَنَّةِ وَالْفَوْزِ اَلْمُبِينِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، جَزَاءً مِنَّا لَهُمْ عَلَى طَاعَتِنَا وَبِإِنْذَارِ مَنْ عَصَانَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا، عُقُوبَتُنَا إِيَّاهُ عَلَى مَعْصِيَتِنَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، جَزَاءً مِنَّا عَلَى مَعْصِيَتِنَا، لِنَعْذُرَ إِلَيْهِ فَيَهْلَكُ إِنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ " {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} "، يَقُولُ: فَمَنْ صَدَّقَ مَنْ أَرْسَلَنَا إِلَيْهِ مِنْ رُسُلِنَا إِنْذَارَهُمْ إِيَّاهُ، وَقَبِلَ مِنْهُمْ مَا جَاؤُوهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِي اَلدُّنْيَا " {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} "، عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِهِ اَلَّذِي أَعَدَّهُ اَللَّهُ لِأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ مَعَاصِيهِ " {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} "، عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ اَلْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِمَنْ أَرْسَلَنَا إِلَيْهِ مِنْ رُسُلِنَا، وَخَالَفُوا أَمْرَنَا وَنَهْيَنَا، وَدَافَعُوا حُجَّتَنَا، فَإِنَّهُمْ يُبَاشِرُهُمْ عَذَابُنَا وَعِقَابُنَا، عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ حُجَجِِنَا " {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} "، يَقُولُ: بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ. وَكَانَ اِبْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: كُلُّ "فِسْق" فِي اَلْقُرْآنِ، فَمَعْنَاهُ اَلْكَذِبُ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ، عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ اَلْمُنْكِرِينَ نُبُوَّتَكَ: لَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي اَلرَّبُّ اَلَّذِي لَهُ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ غُيُوبَ اَلْأَشْيَاءِ اَلْخَفِيَّةَ اَلَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اَلرَّبُّ اَلَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَتُكَذِّبُونِي فِيمَا أَقُولُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَبًّا إِلَّا مِنْ لَهُ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ " {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} "، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَلَكٍ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا بِصُورَتِهِ لِأَبْصَارِ اَلْبَشَرِ فِي اَلدُّنْيَا، فَتَجْحَدُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ " {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} "، يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ: مَا أَتْبَعُ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، إِلَّا وَحْيُ اَللَّهِ اَلَّذِي يُوحِيهِ إِلَيَّ، وَتَنْزِيلُهُ اَلَّذِي يُنَزِّلُهُ عَلَيَّ، فَأَمْضِي لِوَحْيهِ وأئتَمِرُ لِأَمْرِهِ، وَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِالْحُجَجِ اَلْقَاطِعَةِ مِنَ اَللَّهِ عُذْرَكُمْ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ اَلَّذِي أَقُولُ مِنْ ذَلِكَ بِمُنْكَرٍ فِي عُقُولِكُمْ وَلَا مُسْتَحِيلٍ كَوْنُهُ، بَلْ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ اَلْبُرْهَانِ عَلَى حَقِيقَتِهِ هُوَ اَلْحِكْمَةُ اَلْبَالِغَةُ، فَمَا وَجْهُ إِنْكَارِكُمْ ذَلِكَ؟ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَى مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ. " {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} "، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهَمْ: هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمَى عَنِ اَلْحَقِّ، وَالْبَصِيرِ بِهِ "وَالْأَعْمَى "، هُوَ اَلْكَافِرُ اَلَّذِي قَدْ عَمِيَ عَنْ حُجَجِ اَللَّهِ فَلَا يَتَبَيَّنُهَا فَيَتْبَعُهَا" وَالْبَصِيرُ "، اَلْمُؤْمِنُ اَلَّذِي قَدْ أَبْصَرَ آيَاتِ اَللَّهِ وَحُجَجَهُ، فَاقْتَدَى بِهَا وَاسْتَضَاءَ بِضِيَائِهَا " أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ "، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ: أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ فِيمَا أَحْتَجُّ عَلَيْكُمْ بِهِ، أَيُّهَا اَلْقَوْمُ مِنْ هَذِهِ اَلْحُجَجِ، فَتَعْلَمُوا صِحَّةَ مَا أَقُولُ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، مِنْ فَسَادِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ إِشْرَاكِ اَلْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ بِاَللَّهِ رَبِّكُمْ، وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّايَ مَعَ ظُهُورِ حُجَجِ صِدْقِي لِأُعْيُنِكُمْ، فَتَدَعُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ اَلْكُفْرِ مُقِيمُونَ، إِلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ اَلْإِيمَانِ اَلَّذِي بِهِ تَفُوزُونَ؟ وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} "، قَالَ: اَلضَّالُّ وَالْمُهْتَدِي. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} "، اَلْآيَةَ، قَالَ: " اَلْأَعْمَى "، اَلْكَافِرُ اَلَّذِي قَدْ عَمِيَ عَنْ حَقِّ اَللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِ وَ" اَلْبَصِيرُ "، اَلْعَبْدُ اَلْمُؤْمِنُ اَلَّذِي أَبْصَرَ بَصَرًا نَافِعًا، فَوَحَّدَ اَللَّهَ وَحْدَهُ، وَعَمِلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَانْتَفَعَ بِمَا آتَاهُ اَللَّهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنْذِرْ، يَا مُحَمَّدُ، بِالْقُرْآنِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، عِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ، فَهُمْ مُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اَللَّهِ وَوَعِيدِهِ، عَامِلُونَ بِمَا يُرْضِي اَللَّهَ، دَائِبُونَ فِي اَلسَّعْيِ، فِيمَا يُنْقِذُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ " {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ} "، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ إِنْ عَذَّبَهُمْ، "وَلَيٌّ "، يَنْصُرُهُمْ فَيَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْهُ، " وَلَا شَفِيعٌ "، يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَيُخَلِّصُهُمْ مِنْ عِقَابِهِ " لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ "، يَقُولُ: أَنْذِرْهُمْ كَيْ يَتَّقُوا اَللَّهَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَيُطِيعُوا رَبَّهُمْ، وَيَعْمَلُوا لِمَعَادِهِمْ، وَيَحْذَرُوا سَخَطَهُ بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. وَقِيلَ: " {وَأَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} "، وَمَعْنَاهُ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُحْشُرُونَ، فَوُضِعَتِ "اَلْمَخَافَة" مَوْضِعَ " اَلْعِلْمِ "، لِأَنَّ خَوْفَهُمْ كَانَ مِنْ أَجْلِ عِلْمِهِمْ بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَوُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ شَكِّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِ أَصْحَابِهِ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْذَارِ وَصَدَّ عَنْهُ اَلْمُشْرِكُونَ بِهِ، بَعْدَ اَلْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَبَعْدَ إِقَامَةِ اَلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونَ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَاكِمُ فِي أَمْرِهِمْ بِمَا يَشَاءُ مِنَ اَلْحُكْمِ فِيهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي سَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ اَلْمُسْلِمِينَ، قَالَ اَلْمُشْرِكُونَ لَهُ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ عَنْكَ لَغَشِينَاكَ وَحَضَرْنَا مَجْلِسَكَ! ذِكْرُ اَلرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ اَلسَّرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُبَيْدٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسٍ اَلثَّعْلَبِيِّ، عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «مَرَّ اَلْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ، وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ اَلْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ أَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اُطْرُدْهُمْ عَنْكَ! فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} " " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} "، إِلَى آخَرِ اَلْآيَة». جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسِ اَلثَّعْلَبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ: مَرَّ اَلْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي أَبُو اَلسَّائِبِ قَالَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْأَزْدِيِّ وَكَانَ قَارِئَ الْأَزْدِ، عَنْ أَبِي اَلْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ، فِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} "إِلَى قَوْلِهِ: " {فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} "، قَالَ: «جَاءَ اَلْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ اَلتَّمِيمِيُّ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَوَجَدُوا اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا مَعَ بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَخَبِّابٍ، فِي أُنَاسٍ مِنَ اَلضُّعَفَاءِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَجْعَلََ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا اَلْعَرَبُ بِهِ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ اَلْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا اَلْعَرَبُ مَعَ هَؤُلَاءِ اَلْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ! قَالَ: نَعَمْ! قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ بِذَلِكَ كِتَابًا. قَالَ: فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ. قَالَ: وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، إِذْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ اَلْآيَةِ: " {وَلَا تَطْرُدُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} "، ثُمَّ قَالَ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} "، ثُمَّ قَالَ: " {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} "، فَأَلْقَى رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اَلصَّحِيفَةَ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: " {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ}" ! فَكُنَّا نَقْعُدُ مَعَهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَامَ وَتَرَكَنَا، فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا}، [سُورَةُ اَلْكَهْفِ: 28]. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْعُدُ مَعَنَا بَعْدُ، فَإِذَا بَلَغَ اَلسَّاعَةَ اَلَّتِي يَقُومُ فِيهَا، قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُوم». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي اَلْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ اَلْأَرَتِّ بِنَحْوِ حَدِيثِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَمْرٍو، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ نَفَّرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوَا بِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: " {فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} "، ثُمَّ ذَكَرَ اَلْأَقْرَعَ وَصَاحِبَهُ فَقَالَ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} " اَلْآيَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: فَدَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: " {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} "، فَدَنَوْنَا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى وَضَعَنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَسَائِرُ اَلْحَدِيثِ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ: «أَنَّ نَاسًا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتْبَعَكَ، فَاطْرُدْ عَنَّا فُلَانًا وَفُلَانًا، نَاسًا مِنْ ضُعَفَاءِ اَلْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ".» حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "إِلَى قَوْلِهِ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}" اَلْآيَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ اَلنَّاسِ لِرَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتْبَعَكَ فَاطْرُدْ عَنَّا فُلَانًا وَفُلَانًا لِأُنَاسٍ كَانُوا دُونَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا، اِزْدَرَاهُمُ اَلْمُشْرِكُونَ، فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ اَلْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، «عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ، كَانَا يُجَالِسَانِ مُحَمَّدًا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ مُحَقِّرَتَهُمَا: لَوْلَاهُمَا وَأَمْثَالُهُمَا لَجَالَسْنَاهُ! فَنُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ، حَتَّى قَوْلِهِ: " {أَلَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} "، قَالَ: " قُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ "، فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي هَذَا». حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اَلْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ سَعْدٌ: «نَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمُ اِبْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَسْبِقُ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَدْنُو مِنْهُ وَنَسْمَعُ مِنْهُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: يُدْنِي هَؤُلَاءِ دُونَنَا! فَنَزَلَتْ: {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}». حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، «عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَأَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} "اَلْآيَةَ، قَالَ: جَاءَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَقَرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ، فِي أَشْرَافٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِنَ اَلْكُفَّارِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، لَوْ أَنَّ اِبْنَ أَخِيكَ يَطْرُدُ عَنْهُ مُوَالِيَنَا وَحُلَفَاءَنَا، فَإِنَّمَا هُمْ عَبِيدُنَا وَعُسَفَاؤُنَا، كَانَ أَعْظَمَ فِي صُدُورِنَا، وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا، وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ، وَتَصْدِيقِنَا لَهُ! قَالَ: فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِاَلَّذِي كَلَّمُوهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، حَتَّى تَنْظُرَ مَا اَلَّذِي يُرِيدُونَ، وَإِلَامَ يَصِيرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ اَلْآيَةَ: " {وَأَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}" إِلَى قَوْلِهِ: " {أَلَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} "، قَالَ: وَكَانُوا: بِلَالٌ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَصُبَيْحٌ مَوْلَى أُسَيْدٍ وَمِنَ اَلْحُلَفَاءِ: اِبْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَسْعُودُ بْنُ اَلْقَارِيِّ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ الْحَنْظَلَيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو ذُو الشِّمَالَيْنِ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَأَبُو مَرْثَدٍ، مِنْ غَنِيٍّ، حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اَلْمَطَّلِبِ وَأَشْبَاههمْ مِنَ اَلْحُلَفَاءِ. وَنَزَلَتْ فِي أَئِمَّةِ اَلْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} " اَلْآيَة. فَلَمَّا نَزَلَتْ، أَقْبَلُ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ فَاعْتَذَرَ مِنْ مَقَالَتِهِ، فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} "، اَلْآيَة». حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ، «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَسْتَحْيِي مِنَ اَللَّهِ أَنْ يَرَانِي مَعَ سَلْمَانَ وَبِلَالٍ وَذَوِيهِمْ، فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ، وَجَالِسْ فُلَانًا وَفُلَانًا! قَالَ فَنَزَلَ اَلْقُرْآنَ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} " فَقَرَأَ، حَتَّى بَلَغَ: " {فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} "، مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ إِلَّا أَنْ تَطْرُدَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ". ثُمَّ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ أَمَرُوكَ أَنْ تَطْرُدَهُمْ، فَأَبْلِغْهُمْ مِنِّي اَلسَّلَامَ، وَبَشِّرْهُمْ وَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ! وَقَرَأَ: " {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} "، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: " {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ} "، قَالَ: لِتَعْرِفَهَا». وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ فِي اَلدُّعَاءِ اَلَّذِي كَانَ هَؤُلَاءِ اَلرَّهْطُ، اَلَّذِينَ نَهَى اَللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَرْدِهِمْ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اَلصَّلَوَاتُ اَلْخَمْسُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، يَعْنِي: يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ " بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ "، يَعْنِي: اَلصَّلَوَاتِ اَلْمَكْتُوبَةَ. حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحَجَّاجُ بْنُ اَلْمِنْهَالِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: " {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} "، قَالَ: هِيَ اَلصَّلَوَاتُ اَلْخَمْسُ اَلْفَرَائِضُ. وَلَوْ كَانَ مَا يَقُولُ اَلْقُصَّاصُ، هَلَكَ مَنْ لَمْ يَجْلِسْ إِلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ اَلسَّرِيِّ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا اِبْنُ فَضِيلٍ، عَنِ اَلْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} "، قَالَ: هِيَ اَلصَّلَاةُ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، اَلصَّلَاةُ اَلْمَفْرُوضَةُ، اَلصُّبْحُ وَالْعَصْرُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ اَلْكَنَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ الْجُعْفِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ اَلْمُغِيرَةِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنَ عِيسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى اَلْحَسَنِ فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اَللَّهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سُورَةُ اَلْكَهْفِ: 28]، أَهُمْ هَؤُلَاءِ اَلْقُصَّاصُ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُمُ اَلْمُحَافِظُونَ عَلَى اَلصَّلَوَاتِ فِي اَلْجَمَاعَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ: " {اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: اَلصَّلَاةُ اَلْمَكْتُوبَةُ. حُدِّثْتُ عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلْفَرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ اَلضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ " بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ "، يَعْنِي اَلصَّلَاةَ اَلْمَفْرُوضَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سُورَةُ اَلْكَهْفِِ: 28]، هُمَا اَلصَّلَاتَانِ: صَلَاةُ اَلصُّبْحِ وَصَلَاةُ اَلْعَصْرِ. حَدَّثَنِي اِبْنُ اَلْبَرْقِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} اَلْآيَةَ، أَنَّهُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ اَلصَّلَوَاتِ اَلْمَكْتُوبَةَ. حَدَّثَنَا اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، قَالَا اَلصَّلَوَاتُ اَلْخَمْسُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهَ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: اَلْمُصَلِّينَ اَلْمُؤْمِنِينَ: بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ قَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَلَّيْتُ اَلصُّبْحَ مَعَ سَعِيدِ بْنِ اَلْمُسَيَّبِ، فَلَمَّا سَلَّمَ اَلْإِمَامُ اِبْتَدَرَ اَلنَّاسُ اَلْقَاصَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا أَسْرَعَ بِهِمْ إِلَى هَذَا اَلْمَجْلِسِ! قَالَ مُجَاهِدٌ: فَقُلْتُ يَتَأَوَّلُونَ مَا قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ. قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قُلْتُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: وَفِي هَذَا ذَا؟ إِنَّمَا ذَاكَ فِي اَلصَّلَاةِ اَلَّتِي اِنْصَرَفْنَا عَنْهَا اَلْآنَ، إِنَّمَا ذَاكَ فِي اَلصَّلَاةِ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ: اَلصَّلَاةُ اَلْمَكْتُوبَةُ. حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: هِيَ اَلصَّلَاةُ. حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: هِيَ اَلصَّلَاةُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} "، يَقُولُ: صَلَاةُ اَلصُّبْحِ وَصَلَاةُ اَلْعَصْرِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَلَّى عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ فِي مَسْجِدِ اَلرَّسُولِ، فَلَمَّا صَلَّى قَامَ فَاسْتَنَدَ إِلَى حُجْرَةِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْثَالَ اَلنَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِلَيْكُمْ! فَقِيلَ: يَرْحَمُكَ اَللَّهُ، إِنَّمَا جَاؤُوا يُرِيدُونَ هَذِهِ اَلْآيَةَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سُورَةُ اَلْكَهْفِ: 28]. فَقَالَ: وَهَذَا عُنِيَ بِهَذَا! إِنَّمَا هُوَ فِي اَلصَّلَاةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ اَلصَّلَاةُ، وَلَكِنَّ اَلْقَوْمَ لَمْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْدَ هَؤُلَاءِ اَلضُّعَفَاءِ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَلَا تَأْخِيرَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ تَأْخِيرَهُمْ عَنِ اَلصَّفِّ اَلْأَوَّلِ، حَتَّى يَكُونُوا وَرَاءَهُمْ فِي اَلصَّفِّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} " اَلْآيَةَ، فَهُمْ أُنَاسٌ كَانُوا مَعَ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اَلْفُقَرَاءِ، فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَشْرَافِ اَلنَّاسِ: نُؤْمِنُ لَكَ، وَإِذَا صَلَّيْنَا فَأَخِّرْ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ مَعَكَ فَلْيُصَلُّوا خَلْفَنَا! وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى "دُعَائِهِم" كَانَ، ذِكْرُهُمُ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي وَحَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَوْلُهُ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: أَهَّلَ اَلذِّكْرِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: هُمْ أَهْلُ اَلذِّكْرِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: لَا تَطْرُدُهُمْ عَنِ اَلذِّكْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ، تَعَلُّمَهُمُ اَلْقُرْآنَ وَقِرَاءَتهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سُورَةُ اَلْكَهْفِ: 28]، قَالَ: كَانَ يُقْرِئُهُمُ اَلْقُرْآنَ، مِنَ اَلَّذِي يَقُصُّ عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِدُعَائِهِمْ رَبَّهُمْ، عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ اَلْحُسَيْنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ اَلضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "، قَالَ: يَعْنِي: يَعْبُدُونَ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 43]، يَعْنِي: تَعْبُدُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ اَلْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَهَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ قَوْمًا كَانُوا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَ" اَلدُّعَاءُ لِلَّهِ "، يَكُونُ بِذِكْرِهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَكَلَامًا وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَمَلِ لَهُ بِالْجَوَارِحِ اَلْأَعْمَالَ اَلَّتِي كَانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهَا، وَغَيْرُهَا مِنَ اَلنَّوَافِلِ اَلَّتِي تُرْضِي عَنِ اَلْعَامِلِ لَهُ عَابِدَهُ بِمَا هُوَ عَامِلٌ لَهُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ اَلْقَوْمُ كَانُوا جَامِعِينَ هَذِهِ اَلْمَعَانِي كُلِّهَا، فَوَصَفَهُمُ اَللَّهُ بِذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، لِأَنَّ اَللَّهَ قَدْ سَمَّى "اَلْعِبَادَةَ "، " دُعَاءً "، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، [سُورَةُ غَافِرٍ: 60]. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى خَاصٍّ مِنَ اَلدُّعَاءِ. وَلَا قَوْلَ أَوْلَى بِذَلِكَ بِالصِّحَّةِ، مِنْ وَصْفِ اَلْقَوْمِ بِمَا وَصَفَهُمُ اَللَّهُ بِهِ: مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، فَيَعُمُّونَ بِالصِّفَةِ اَلَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا رَبَّهُمْ، وَلَا يَخُصُّونَ مِنْهَا بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. فَتَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ إذًا: يَا مُحَمَّدُ، أَنْذِرِ اَلْقُرْآنَ اَلَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ، اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ مَحْشُورُونَ فَهُمْ مِنْ خَوْفِ وُرُودِهِمْ عَلَى اَللَّهِ اَلَّذِي لَا شَفِيعَ لَهُمْ مَنْ دُونِهِ وَلَا نَصِيرَ، فِي اَلْعَمَلِ لَهُ دَائِبُونَ إِذْ أَعْرَضَ عَنْ إِنْذَارِكَ وَاسْتِمَاعِ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ مِنْ قَوْمِكَ، اِسْتِكْبَارًا عَلَى اَللَّهِ وَلَا تَطْرُدْهُمْ وَلَا تُقْصِهِمْ، فَتَكُونَ مِمَّنْ وَضَعَ اَلْإِقْصَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَأَقْصَى وَطَرَدَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرْدُهُ وَإِقْصَاؤُهُ، وَقَرَّبَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَقْدِيمُهُ بِقُرْبِهِ وَإِدْنَاؤُهُ، فَإِنَّ اَلَّذِينَ نَهَيْتُكَ عَنْ طَرْدِهِمْ هُمُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيَسْأَلُونَهُ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَدَاءِ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَنَوَافِلِ تَطَوُّعِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ اَلْقُرْبَةَ إِلَى اَللَّهِ، وَالدُّنُوَّ مِنْ رِضَاهُ " {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} "، يَقُولُ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ مَا رَزَقَتْهُمْ مِنَ اَلرِّزْقِ مِنْ شَيْءٍ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِ مَا رَزَقْتُكَ مِنَ اَلرِّزْقِ مِنْ شَيْءٍ " فَتَطْرُدَهُمْ "، حِذَارَ مُحَاسَبَتِي إِيَّاكَ بِمَا خَوَّلْتَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلرِّزْقِ. وَقَوْلُهُ: "فَتَطْرُدَهُمْ "، جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: " مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ". وَقَوْلُهُ: " {فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} " جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: " {وَلَا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: "وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ"، وَكَذَلِكَ اِخْتَبَرْنَا وَابْتَلَيْنَا، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ وَحَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} "، يَقُولُ: اِبْتَلَيْنَا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى مَعْنَى " اَلْفِتْنَةِ "، وَأَنَّهَا اَلِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا فِتْنَةُ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ بِبَعْضٍ، مُخَالَفَتُهُ بَيْنَهُمْ فِيمَا قَسَّمَ لَهُمْ مِنَ اَلْأَرْزَاقِ وَالْأَخْلَاقِ، فَجَعَلَ بَعْضًا غَنِيًّا وَبَعْضًا فَقِيرًا، وَبَعْضًا قَوِيًّا، وَبَعْضًا ضَعِيفًا، فَأَحْوَجَ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، اِخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} "، يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَغْنِيَاءَ وَبَعْضَهُمْ فَقُرَاءَ، فَقَالَ اَلْأَغْنِيَاءُ لِلْفُقَرَاءِ: " {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} "، يَعْنِي: هَدَاهُمُ اَللَّهُ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اِسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} "، يَقُولُ تَعَالَى: اِخْتَبَرْنَا اَلنَّاسَ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، كَيْ يَقُولَ مَنْ أَضَلَّهُ اَللَّهُ وَأَعْمَاهُ عَنْ سَبِيلِ اَلْحَقِّ، لِلَّذِينِ هَدَاهُمُ اَللَّهُ وَوَفَّقَهُمْ: " {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} "، بِالْهُدَى وَالرُّشْدِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ ضُعَفَاءُ أَذِلَّاءُ " مِنْ بَيْنِنَا "، وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ أَقْوِيَاءُ؟ اِسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَمُعَادَاةً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {أَلَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} "، وَهَذَا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِجَابَةً لِهَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اَللَّهُ هَدَى أَهَلَ اَلْمَسْكَنَةِ وَالضَّعْفِ لِلْحَقِّ، وَخَذَلَهُمْ عَنْهُ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ وَتَقْرِيرٌ لَهُمْ: أَنَا أَعْلَمُ بِمَنْ كَانَ مِنْ خَلْقِي شَاكِرًا نِعْمَتِي، مِمَّنْ هُوَ لَهَا كَافِرٌ. فَمَنِّي عَلَى مَنْ مَنَنْتُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ بِالْهِدَايَةِ، جَزَاءَ شُكْرِهِ إِيَّايَ عَلَى نِعْمَتِي، وَتَخْذِيلِي مَنْ خَذَلْتُ مِنْهُمْ عَنْ سَبِيلِ اَلرَّشَادِ، عُقُوبَةَ كُفْرَانِهِ إِيَّايَ نِعْمَتِي، لَا لِغِنَى اَلْغَنِيِّ مِنْهُمْ وَلَا لِفَقْرِ اَلْفَقِيرِ، لِأَنَّ اَلثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ إِلَّا جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِ اَلَّذِي اِكْتَسَبَهُ، لَا عَلَى غِنَاهُ وَفَقْرِهِ، لِأَنَّ اَلْغِنَى وَالْفَقْرَ وَالْعَجْزَ وَالْقُوَّةَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ خَلْقِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ فِي اَلَّذِينَ عَنَى اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهَذِهِ اَلْآيَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهَا اَلَّذِينَ نَهَى اَللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ. وَقَدْ مَضَتِ اَلرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عَنْ قَائِلِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا قَوْمًا اِسْتَفْتَوُا اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عِظَامٍ، فَلَمَّ يُؤَيْسْهُمُ اَللَّهُ مِنَ اَلتَّوْبَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَمِّعٍ قَالَ سَمِعْتُ مَاهَانَ قَالَ: «جَاءَ قَوْمٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَابُوا ذُنُوبًا عِظَامًا. قَالَ مَاهَانُ: فَمَا إِخَالُهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا. قَالَ: فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ اَلْآيَةَ: "وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُم" اَلْآيَة». حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُجَمِّعٍ، عَنْ مَاهَانَ: «أَنَّ قَوْمًا جَاؤُوا إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا أَصَبْنَا ذُنُوبًا عِظَامًا! فَمَا إِخَالُهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَانْصَرَفُوا فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} ". قَالَ: فَدَعَاهُمْ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِم». حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَمِّعٍ اَلتَّمِيمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ مَاهَانَ يَقُولُ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهَا قَوْمٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ كَانُوا أَشَارُوا عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرْدِ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ نَهَاهُ اَللَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَطِيئَةً، فَغَفَرَهَا اَللَّهُ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَوْهُ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِأَنْ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ خَطِيئَتَهُمُ اَلَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ بِمَشُورَتِهِمْ عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرْدِ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِطَرْدِهِمْ. وَذَلِكَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اَلرِّوَايَةَ عَنْهُمَا بِذَلِكَ قَبْلُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى اَلْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِتَأْوِيلِ اَلْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: اَلْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ: " {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} "، غَيْرُ اَلَّذِينَ نَهَى اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَرْدِهِمْ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: " {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} "، خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ تَقَضِّي اَلْخَبَرِ عَنِ اَلَّذِينَ نَهَى اَللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَرْدِهِمْ. وَلَوْ كَانُوا هُمْ، لَقِيلَ: " {وَإِذَا جَاؤُوكَ فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} ". وَفِي اِبْتِدَاءِ اَللَّهِ اَلْخَبَرَ عَنْ قِصَّةِ هَؤُلَاءِ، وَتَرْكِهِ وَصْلَ اَلْكَلَامِ بِالْخَبَرِ عَنِ اَلْأَوَّلِينَ، مَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ. فَتَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ إذًا إِذْ كَانَ اَلْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَإِذَا جَاءَكَ، يَا مُحَمَّدُ، اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِتَنْزِيلِنَا وَأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا، فَيُقِرُّونَ بِذَلِكَ قَوْلًا وَعَمَلًا مُسْتَرْشَدِيكَ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، هَلْ لَهُمْ مِنْهَا تَوْبَةٌ، فَلَا تُؤَيِّسْهُمْ مِنْهَا، وَقُلْ لَهُمْ: " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ "، أَمَنَةُ اَللَّهِ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، أَنْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ تَوْبَتِكُمْ مِنْهَا " {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} "، يَقُولُ: قَضَى رَبُّكُمُ اَلرَّحْمَةَ بِخَلْقِهِ " {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ". وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ: فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ اَلْمَدَنِيِّينَ: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا}، فَيَجْعَلُونَ "أَن" مَنْصُوبَةً عَلَى اَلتَّرْجَمَةِ بِهَا عَنْ "اَلرَّحْمَة" {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، عَلَى اِئْتِنَافِ "إِنَّه" بَعْدَ "اَلْفَاء" فَيَكْسِرُونَهَا، وَيَجْعَلُونَهَا أَدَاةً لَا مَوْضِعَ لَهَا، بِمَعْنَى: فَهُوَ لَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَوْ: فَلَهُ اَلْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ. وَقَرَأَهُمَا بَعْضُ اَلْكُوفِيِّينَ بِفَتْحِ "اَلْأَلِف" مِنْهُمَا جَمِيعًا، بِمَعْنَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} ثُمَّ تَرْجَمَ بِقَوْلِهِ: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ}، عَنِ اَلرَّحْمَةِ، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فَيَعْطِفُ بِـ "أَنَّه" اَلثَّانِيَةِ عَلَى "أَنَّه" اَلْأُولَى، وَيَجْعَلُهُمَا اِسْمَيْنِ مَنْصُوبَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ اَلْمَكِّيِّينَ وَعَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ اَلْعِرَاقِ مِنَ اَلْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: بِكَسْرِ "اَلْأَلِف" مِنْ "إِنَّه" وَ" إِنَّهُ " عَلَى اَلِابْتِدَاءِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا أَدَاتَانِ لَا مَوْضِعَ لَهُمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى اَلْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُمَا بِالْكَسْرِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ إِنَّهُ}، عَلَى اِبْتِدَاءِ اَلْكَلَامِ، وَأَنَّ اَلْخَبَرَ قَدِ اِنْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: " {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} "، ثُمَّ اُسْتُؤْنِفَ اَلْخَبَرُ عَمَّا هُوَ فَاعِلٌ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَنْ عَمِلَ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ مِنْهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " {إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} "، أَنَّهُ مَنِ اِقْتَرَفَ مِنْكُمْ ذَنْبًا، فَجَهِلَ بِاقْتِرَافِهِ إِيَّاهُ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ "فَإِنَّهُ غَفُورٌ "، لِذَنْبِهِ إِذَا تَابَ وَأَنَابَ، وَرَاجَعَ اَلْعَمَلَ بِطَاعَةِ اَللَّهِ، وَتَرَكَ اَلْعَوْدَ إِلَى مِثْلِهِ، مَعَ اَلنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْه" رَحِيمٌ "، بِالتَّائِبِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنْهُ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ اَلْأَحْمَرُ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} "، قَالَ: مِنْ جَهْلٍ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَلَالًا مِنْ حَرَامٍ، وَمِنْ جَهَالَتِهِ رَكِبَ اَلْأَمْرَ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ اَلضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ} "، قَالَ: مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ، فَذَاكَ مِنْهُ جَهْلٌ حَتَّى يَرْجِعَ. حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} "، قَالَ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ بِخَطِيئَةٍ فَهُوَ بِهَا جَاهِلٌ. حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو خَلْدَةَ قَالَ: كُنَّا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى أَبِي اَلْعَالِيَةِ قَالَ: " {وَإِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ} "، وَكَمَا فَصَّلْنَا لَكَ فِي هَذِهِ اَلسُّورَةِ مِنَ اِبْتِدَائِهَا وَفَاتِحَتِهَا، يَا مُحَمَّدُ إِلَى هَذَا اَلْمَوْضِعِ، حُجَّتَنَا عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ اَلْأَوْثَانِ، وَأَدِلَّتَنَا، وَمَيَّزْنَاهَا لَكَ وَبَيَّنَّاهَا، كَذَلِكَ نُفَصِّلُ لَكَ أَعْلَامَنَا وَأَدِلَّتَنَا فِي كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ اَلْبَاطِلِِِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ اَلْمِلَلِ غَيْرُهُمْ، فَنُبَيِّنُهَا لَكَ، حَتَّى تَبَيَّنَ حَقُّهُ مِنْ بَاطِلِهِ، وَصَحِيحُهُ مِنْ سَقِيمِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: " وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ ". فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ: (وَلِتَسْتَبِينَ) بِالتَّاءِ {سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ} بِنَصْبِِ "اَلسَّبِيلِ "، عَلَى أَن" تَسْتَبِينَ "، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: وَلِتَسْتَبِينَ، أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، سَبِيلَ اَلْمُجْرِمِينَ. وَكَانَ اِبْنُ زَيْدٍ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ: وَلِتَسْتَبِينَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، سَبِيلَ اَلْمُجْرِمِينَ اَلَّذِينَ سَأَلُوكَ طَرْدَ اَلنَّفَرِ اَلَّذِينَ سَأَلُوهُ طَرْدَهُمْ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ: " {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ} "، قَالَ: اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَكَ بِطَرْدِ هَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ اَلْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ اَلْبَصْرِيِّينَ: (وَلِتَسْتَبِينَ) بِالتَّاءِ (سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ) بِرَفْعِ " اَلسَّبِيلِ "، عَلَى أَنَّ اَلْقَصْدَ لِلسَّبِيلِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَنِّثُهَا وَكَأَنَّ مَعْنَى اَلْكَلَامِ عِنْدَهُمْ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ، وَلِتَتَّضِحَ لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ طَرِيقُ اَلْمُجْرِمِينَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ اَلْكُوفَةِ: (وَلِيَسْتَبِينَ) بِالْيَاءِ (سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ) بِرَفْعِ "اَلسَّبِيل" عَلَى أَنَّ اَلْفِعْلَ لِلسَّبِيلِ، وَلَكِنَّهُمْ يُذَكِّرُونَهُ وَمَعْنَى هَؤُلَاءِ فِي هَذَا اَلْكَلَامِ، وَمَعْنَى مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ فِي: "وَلِتَسْتَبِين" وَرَفَعَ "اَلسَّبِيلَ "، وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا اَلِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَذْكِير" اَلسَّبِيلِ " وَتَأْنِيثِهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى اَلْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي "اَلسَّبِيل" اَلرَّفْعُ، لِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَصَّلَ آيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ وَتَنْزِيلِهِ، لِيَتَبَيَّنَ اَلْحَقَّ بِهَا مِنَ اَلْبَاطِلِ جَمِيعُ مَنْ خُوطِبَ بِهَا، لَا بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ. وَمَنْ قَرَأَ "اَلسَّبِيل" بِالنَّصْبِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ تَبْيِينَ ذَلِكَ مَحْصُورًا عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا اَلْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: "وَلِتَسْتَبِينَ "، فَسَوَاءٌ قُرِئَتْ بِالتَّاءِ أَوْ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ مِنَ اَلْعَرَبِ مَنْ يَذْكِّر" اَلسَّبِيلَ "وَهُمْ تَمِيمٌ وَأَهْلُ نَجْدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَنِّث" اَلسَّبِيلَ "وَهُمْ أَهْلُ اَلْحِجَازِ. وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ اَلْأَمْصَارِ، وَلُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مِنْ لُغَاتِ اَلْعَرَبِ، وَلَيْسَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ بِإِحْدَاهُمَا خِلَافٌ لِقِرَاءَتِهِ بِالْأُخْرَى، وَلَا وَجْهَ لِاخْتِيَارِ إِحْدَاهُمَا عَلَى اَلْأُخْرَى بَعْدَ أَنْ يَرْفَع" اَلسَّبِيلَ " لِلْعِلَّةِ اَلَّتِي ذَكَرْنَا. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "نُفَصِّلُ اَلْآيَات" قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ} "، نُبَيِّنُ اَلْآيَاتِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي: " نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ "، نُبَيِّنُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ مِنْ قَوْمِكَ، اَلْعَادِلِينَ بِهِ اَلْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ، اَلَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَعِبَادَةِ اَلْأَوْثَانِ: إِنَّ اَللَّهَ نَهَانِي أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، فَلَنْ أَتْبَعَكُمْ عَلَى مَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أُوَافِقُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا أُعْطِيكُمْ مَحَبَّتَكُمْ وَهَوَاكُمْ فِيهِ. وَإِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَقَدْ تَرَكْتُ مَحَجَّةَ اَلْحَقِّ، وَسَلَكْتُ عَلَى غَيْرِ اَلْهُدَى، فَصِرْتُ ضَالًّا مِثْلَكُمْ عَلَى غَيْرِ اِسْتِقَامَةٍ. وَلِلْعَرَبِ فِي "ضَلَلْت" لُغَتَانِ: فَتْحُ "اَللَّام" وَكَسْرُهَا، وَاللُّغَةُ اَلْفَصِيحَةُ اَلْمَشْهُورَةُ هِيَ فَتْحُهَا، وَبِهَا قَرَأَ عَامَّةُ قَرَأَةِ اَلْأَمْصَارِ، وَبِهَا نَقْرَأُ لِشُهْرَتِهَا فِي اَلْعَرَبِ. وَأَمَّا اَلْكَسْرُ فَلَيْسَ بِالْغَالِبِ فِي كَلَامِهَا، والْقَرَأَةُ بِهَا قَلِيلُونَ. فَمَنْ قَالَ "ضَلَلْت" قَالَ: "أَضِلُّ "، وَمَنْ قَال" ضَلِلْتُ "قَالَ فِي اَلْمُسْتَقْبَل" أَضَلُّ ". وَكَذَلِكَ اَلْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا فِي سَائِرِ اَلْقُرْآنِ: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا} بِفَتْحِ اَللَّامِ [سُورَةُ اَلسَّجْدَةِ: 10].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُل" يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ، اَلدَّاعِينَ لَكَ إِلَى اَلْإِشْرَاكِ بِرَبِّكَ "إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي "، أَيْ إِنِّي عَلَى بَيَانٍ قَدْ تَبَيَّنْتُهُ، وَبُرْهَانٍ قَدْ وَضَحَ لِي" مَنْ رَبِّي "، يَقُولُ: مِنْ تَوْحِيدِي، وَمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ إِخْلَاصِ عُبُودِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكِ شَيْءٍ بِهِ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ اَلْعَرَبُ: " فُلَانٌ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ "، إِذَا كَانَ عَلَى بَيَانٍ مِنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اَلشَّاعِرِ: أَبَيِّنَةً تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ *** وقَوْلِ سُوَيْدٍ قَدْ كَفَيْتُكُمُ بِشْرَا " وَكَذَّبْتُمْ بِهِ "يَقُولُ: وَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ وَ" اَلْهَاء" فِي قَوْلِهِ "بِه" مَنْ ذِكْرِ اَلرَّبِّ جَلَّ وَعَزَّ " {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} "، يَقُولُ: مَا اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ مِنْ نِقَمِ اَللَّهِ وَعَذَابِهِ بِيَدِي، وَلَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ بِقَادِرٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ بَعَثَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْحِيدِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اَللَّهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [سُورَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ: 3]. وَقَالُوا لِلْقُرْآنِ: هُوَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ اِخْتِلَاقٌ اِخْتَلَقَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مُحَمَّدٌ شَاعِرٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ فَقَالَ اَللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِبْهُمْ بِأَنَّ اَلْآيَاتِ بِيَدِ اَللَّهِ لَا بِيَدِكَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا اَلْبَلَاغُ لِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَأَنَّ اَللَّهَ يَقْضِي اَلْحَقَّ فِيهِمْ وَفِيكَ، وَيَفْصِلُ بِهِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَيَتَبَيَّنُ اَلْمُحِقُّ مِنْكُمْ وَالْمُبْطِلُ " {وَهُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ} "، أَيْ: وَهُوَ خَيْرُ مَنْ بَيَّنَ وَمَيَّزَ بَيْنَ اَلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ وَأَعْدَلُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ حَيْفٌ إِلَى أَحَدٍ لِوَسِيلَةٍ لَهُ إِلَيْهِ وَلَا لِقَرَابَةٍ وَلَا مُنَاسَبَةٍ، وَلَا فِي قَضَائِهِ جَوْرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ اَلرِّشْوَةَ فِي اَلْأَحْكَامِ فَيَجُورُ، فَهُوَ أَعْدَلُ اَلْحُكَّامِ وَخَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اَللَّهِ: {وَهُوَ أَسْرَعُ اَلْفَاصِلِينَ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اَللَّهِ: (يَقْضِي اَلْحَقَّ وَهُوَ أَسْرَعُ اَلْفَاصِلِينَ). وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: " يَقُصُّ اَلْحَقَّ ". فَقَرَأَهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ اَلْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَبَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ اَلْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: " {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ} "، بِالصَّادِ، بِمَعْنَى " اَلْقَصَصِ "، وَتَأَوَّلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 3]. وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، " يَقُصُّ اَلْحَقَّ "، وَقَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ اَلْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: (إِنِ اَلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقْضِي اَلْحَقَّ) بِالضَّادِ، مِنْ "اَلْقَضَاءِ "، بِمَعْنَى اَلْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بِالْقَضَاءِ، وَاعْتَبَرُوا صِحَّةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " وَهُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ "، وَأَنْ "اَلْفَصْل" بَيْنَ اَلْمُخْتَلِفِينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَضَاءِ لَا بِالْقَصَصِ. وَهَذِهِ اَلْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا أَوْلَى اَلْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِمَا ذَكَرْنَا لِأَهْلِهَا مِنَ اَلْعِلَّةِ. فَمَعْنَى اَلْكَلَامِ إذًا: مَا اَلْحُكْمُ فِيمَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، أَيُّهَا اَلْمُشْرِكُونَ، مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ وَفِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِلَّا لِلَّهِ اَلَّذِي لَا يَجُوزُ فِي حُكْمِهِ، وَبِيَدِهِ اَلْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، يَقْضِي اَلْحَقَّ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ بَيْنَنَا بِقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ، اَلْمُكَذِّبِيكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، اَلسَّائِلِيكَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ اِسْتِعْجَالًا مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ: لَوْ أَنَّ بِيَدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ اَلْعَذَابِ " {لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} "، فَفَصَلَ ذَلِكَ أَسْرَعَ اَلْفَصْلِ، بِتَعْجِيلِي لَكُمْ مَا تَسْأَلُونِي مِنْ ذَلِكَ وَتَسْتَعْجِلُونَهُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ بِيَدِ اَللَّهِ، اَلَّذِي هُوَ أَعْلَمُ بِوَقْتِ إِرْسَالِهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ، اَلَّذِينَ يَضَعُونَ عِبَادَتَهُمُ اَلَّتِي لَا تَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِوَقْتِ اَلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَحَالِ اَلْقَضَاءِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: " {لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} "، بِذَبْحِ اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ اَلْأَحْمَرُ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ بَلَغَنِي فِي قَوْلِهِ: " لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ "، قَالَ: ذَبْحُ اَلْمَوْتِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا اَلْقَوْلِ، نَزَعَ لِقَوْلِهِ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 39]، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا قَالَهُ هَذَا اَلْقَائِلُ فِي "قَضَاءِ اَلْأَمْرِ "، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: " {لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}" مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِمَنِ اِسْتَعْجَلَهُ فَصْلَ اَلْقَضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ بِآيَةٍ يَأْتِيهِمْ بِهَا: لَوْ أَنَّ اَلْعَذَابَ وَالْآيَاتِ بِيَدِي وَعِنْدِي، لَعَاجَلْتُكُمْ بِاَلَّذِي تَسْأَلُونِي مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بِيَدِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ خَلْقَهُ، مِنِّي وَمِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ: وَعِنْدَ اَللَّهِ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ. وَ "اَلْمَفَاتِحُ ": جَمْع" مِفْتَحٍ "، يُقَالُ فِيهِ: "مِفْتَح" وَ" مِفْتَاحٌ ". فَمَنْ قَالَ: "مِفْتَحٌ "، جَمْعُه" مَفَاتِحُ "، وَمَنْ قَالَ: "مِفْتَاحٌ "، جَمْعُه" مَفَاتِيحُ ". وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ} "، خَزَائِنَ اَلْغَيْبِ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ} "، قَالَ يَقُولُ: خَزَائِنُ اَلْغَيْبِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَفَاتِحَ اَلْغَيْبِ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ اَلْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ} "، قَالَ: هُنَّ خَمْسٌ: {إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ} إِلَى {إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سُورَةُ لُقْمَانَ: 34]. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ إذًا: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ مَنْ خَلْقِهِ، وَمَا هُمْ مُسْتَحِقُّوهُ وَمَا هُوَ بِهِمْ صَانِعٌ، فَإِنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ خَلْقِهِ فَلَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُدْرِكُوهُ، وَلَنْ يَعْلَمُوهُ وَلَنْ يُدْرِكُوهُ " {وَيَعْلَمُ مَا فِي اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ} "، يَقُولُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ مَا لَمْ يَغِبْ أَيْضًا عَنْكُمْ، لِأَنَّ مَا فِي اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْعَيْنِ، يَعْلَمُهُ اَلْعِبَادُ. فَكَأَنَّ مَعْنَى اَلْكَلَامِ: وَعِنْدَ اَللَّهِ عِلْمُ مَا غَابَ عَنْكُمْ، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، مِمَّا لَا تَعْلِمُونَهُ وَلَنْ تَعْلَمُوهُ مِمَّا اِسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ نَفْسَهُ، وَيَعْلَمُ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَا يَعْلَمُهُ جَمِيعُكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا مَا يَخْفَى عَنِ اَلنَّاسِ أَوْ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ. فَأَخْبَرَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ وَيَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، وَذَلِكَ هُوَ اَلْغَيْبُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ فِي اَلصَّحَارِي وَالْبَرَارِي، وَلَا فِي اَلْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، إِلَّا اَللَّهُ يَعْلَمُهَا " {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} "، يَقُولُ: وَلَا شَيْءَ أَيْضًا مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ، أَوْ مِمَّا سَيُوجَدُ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، إِلَّا وَهُوَ مُثَبَّتٌ فِي اَللَّوْحِ اَلْمَحْفُوظِ، مَكْتُوبٌ ذَلِكَ فِيهِ، وَمَرْسُومٌ عَدَدُهُ وَمَبْلَغُهُ، وَالْوَقْتُ اَلَّذِي يُوجَدُ فِيهِ، وَالْحَالُ اَلَّتِي يَفْنَى فِيهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " مُبِينٍ "، أَنَّهُ يُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةِ مَا هُوَ فِيهِ، بِوُجُودِ مَا رُسِمَ فِيهِ عَلَى مَا رُسِمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ إِثْبَاتِهِ فِي اَللَّوْحِ اَلْمَحْفُوظِ وَالْكِتَابِ اَلْمُبِينِ، مَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، وَهُوَ بِجَمِيعِهِ عَالَمٌ لَا يَخَافُ نِسْيَانَهُ؟ قِيلَ لَهُ: لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِعْلُ مَا شَاءَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اِمْتِحَانًا مِنْهُ لِحَفَظَتِهِ، وَاخْتِبَارًا لِلْمُتَوَكِّلِينَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِ اَلْعِبَادِ، ثُمَّ بِعَرْضِهَا عَلَى مَا أَثْبَتَهُ اَللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فِي اَللَّوْحِ اَلْمَحْفُوظِ، حَتَّى أَثْبَتَ فِيهِ مَا أَثْبَتَ كُلَّ يَوْمٍ. وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، [سُورَةُ اَلْجَاثِيَةِ: 29]. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إِمَّا بِحُجَّةٍ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ، وَإِمَّا عَلَى بَنِي آدَمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ:- حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ يَحْيَى اَلْحَسَّانِيُّ أَبُو اَلْخَطَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سَعِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْأَعْمَشُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْحَارِثِ قَالَ: مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ وَلَا كَمَغْرِزِ إِبْرَةٍ، إِلَّا عَلَيْهَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا يَأْتِي اَللَّهُ بِعِلْمِهَا: يُبْسُهَا إِذَا يَبِسَتْ، وَرُطُوبَتُهَا إِذَا رَطُبَتْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ، وَاَللَّهُ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّى أَرْوَاحَكُمْ بِاللَّيْلِ فَيَقْبِضُهَا مِنْ أَجْسَادِكُمْ " {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} "، يَقُولُ: وَيَعْلَمُ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ اَلْأَعْمَالِ بِالنَّهَارِ. وَمَعْنَى "اَلتَّوَفِّي" فِي كَلَامِ اَلْعَرَبِ اِسْتِيفَاءُ اَلْعَدَدِ، كَمَا قَالَ اَلشَّاعِرُ: إِنَّ بَنِي اَلْأَدْرَمِ لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ *** وَلَا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْعَدَدْ بِمَعْنَى: لَمْ تُدْخِلْهُمْ قُرَيْشٌ فِي اَلْعَدَدِ. وَأَمَّا "اَلِاجْتِرَاح" عِنْدَ اَلْعَرَبِ، فَهُوَ عَمَلُ اَلرَّجُلِ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ فَمِهِ، وَهِيَ "اَلْجَوَارِح" عِنْدَهُمْ، جَوَارِحُ اَلْبَدَنِ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُمْ. ثُمَّ يُقَالُ لِكُلِّ مُكْتَسِبٍ عَمَلًا "جَارِحٌ "، لِاسْتِعْمَالِ اَلْعَرَبِ ذَلِكَ فِي هَذِه" اَلْجَوَارِحِ "، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ فِي اَلْكَلَامِ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ مُكْتَسَبٍ كَسْبًا، بِأَيِّ أَعْضَاءِ جِسْمِهِ اِكْتَسَبَ: " مُجْتَرِحٌ ". وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {وَهُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} "، أَمَّا "يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْل" فَفِي اَلنَّوْمِ وَأَمَّا " يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ "، فَيَقُولُ: مَا اِكْتَسَبْتُمْ مِنَ اَلْإِثْمِ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " {وَهُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} "، يَعْنِي: مَا اِكْتَسَبْتُمْ مِنَ اَلْإِثْمِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} "، قَالَ: مَا عَمِلْتُمْ بِالنَّهَارِ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَهُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} "، يَعْنِي بِذَلِكَ نَوْمَهُمْ " {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} "، أَيْ: مَا عَمِلْتُمْ مِنْ ذَنْبٍ فَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَهُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} "، قَالَ: أَمَّا وَفَاتُهُ إِيَّاهُمْ بِاللَّيْلِ، فَمَنَامُهُمْ وَأَمَّا " مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ "، فَيَقُولُ: مَا اِكْتَسَبْتُمْ بِالنَّهَارِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا اَلْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، فَإِنَّ فِيهِ اِحْتِجَاجًا عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ بِهِ، اَلَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ: " {وَهُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} "، يَقُولُ: فَاَلَّذِي يَقْبِضُ أَرْوَاحَكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَبْعَثُكُمْ فِي اَلنَّهَارِ، لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ وَتَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ، غَيْرُ مُنْكَرٍ لَهُ اَلْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ، ثُمَّ رَدِّهَا إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَإِنْشَائِكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ مَا تُعَايِنُونَ وَتُشَاهِدُونَ، وَغَيْرُ مُنْكَرٍ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى مَا تُعَايِنُونَ مِنْ ذَلِكَ، اَلْقُدْرَةُ عَلَى مَا لَمْ تُعَايِنُوهُ. وَإِنَّ اَلَّذِي لَمْ تَرَوْهُ وَلَمْ تُعَايِنُوهُ مِنْ ذَلِكَ، شَبِيهُ مَا رَأَيْتُمْ وَعَايَنْتُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: "ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ "، يُثِيرُكُمْ وَيُوقِظُكُمْ مِنْ مَنَامِكُم" فِيهِ "يَعْنِي فِي اَلنَّهَارِ، وَ" اَلْهَاء" اَلَّتِي فِي "فِيه" رَاجِعَةٌ عَلَى "اَلنَّهَار" " {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمَّى} "، يَقُولُ: لِيَقْضِيَ اَللَّهُ اَلْأَجَلَ اَلَّذِي سَمَّاهُ لِحَيَاتِكُمْ، وَذَلِكَ اَلْمَوْتُ، فَيَبْلُغُ مُدَّتَهُ وَنِهَايَتَهُ " {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} "، يَقُولُ: ثُمَّ إِلَى اَللَّهِ مَعَادُكُمْ وَمَصِيرُكُمْ " {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} "، يَقُولُ: ثُمَّ يُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِكُمُ اَلدُّنْيَا، ثُمَّ يُجَازِيكُمْ بِذَلِكَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} "، قَالَ: فِي اَلنَّهَارِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} "، فِي اَلنَّهَارِ، وَ" اَلْبَعْثُ "، اَلْيَقَظَةُ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} "، قَالَ: بِالنَّهَارِ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: " {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} "، قَالَ: يَبْعَثُكُمْ فِي اَلْمَنَامِ. " لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمَّى "، وَذَلِكَ اَلْمَوْتُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمَّى} "، وَهُوَ اَلْمَوْتُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمَّى} "، قَالَ: هُوَ أَجَلُ اَلْحَيَاةِ إِلَى اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: " {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمَّى} "، قَالَ: مَدَّتُهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " وَهُوَ اَلْقَاهِرُ "، وَاَللَّهُ اَلْغَالِبُ خَلْقَهُ، اَلْعَالِي عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِهِ، لَا اَلْمَقْهُورُ مِنْ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ، اَلْمُذَلَّلُ اَلْمَعْلُوُّ عَلَيْهِ لِذِلَّتِهِ " {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} "، وَهِيَ مَلَائِكَتُهُ اَلَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَكُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَيُحْصُونَهَا، وَلَا يُفَرِّطُونَ فِي حِفْظِ ذَلِكَ وَإِحْصَائِهِ وَلَا يُضَيِّعُونَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} "، قَالَ: هِيَ اَلْمُعَقِّبَاتُ مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ، يَحْفَظُونَهُ وَيَحْفَظُونَ عَمَلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَهُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، يَقُولُ: حَفَظَةً، يَا اِبْنَ آدَمَ، يَحْفَظُونَ عَلَيْكَ عَمَلَكَ وَرِزْقَكَ وَأَجَلَكَ، إِذَا تَوَفَّيْتَ ذَلِكَ قُبِضْتَ إِلَى رَبِّكَ " {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يَحْفَظُكُمْ بِرُسُلٍ يُعَقِّبُ بَيْنَهَا، يُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ بِحِفْظِكُمْ وَبِحِفْظِ أَعْمَالِكُمْ، إِلَى أَنْ يَحْضُرَكُمُ اَلْمَوْتُ، وَيَنْزِلُ بِكُمْ أَمْرُ اَللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ أَحَدَكُمْ، تَوَفَّاهُ أَمْلَاكُنَا اَلْمُوَكَّلُونَ بِقَبْضِ اَلْأَرْوَاحِ، وَرُسُلُنَا اَلْمُرْسَلُونَ بِهِ " وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ "، فِي ذَلِكَ فَيُضَيِّعُونَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَلَيْسَ اَلَّذِي يَقْبِضُ اَلْأَرْوَاحَ مَلَكُ اَلْمَوْتِ، فَكَيْفَ قِيلَ: "تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، " وَالرُّسُلُ " جُمْلَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [سُورَةُ اَلسَّجْدَةِ: 11]؟ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَعَانَ مَلَكَ اَلْمَوْتِ بِأَعْوَانٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ بِأَمْرِ مَلَكِ اَلْمَوْتِ، فَيَكُونُ "اَلتَّوَفِّي" مُضَافًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَعْوَانِ مَلَكِ اَلْمَوْتِ إِلَى مَلَكِ اَلْمَوْتِ إِذْ كَانَ فِعْلُهُمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ، كَمَا يُضَافُ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ أَعْوَانُ اَلسُّلْطَانِ وَجِلْدُ مَنْ جَلَدُوهُ بِأَمْرِ اَلسُّلْطَانِ، إِلَى اَلسُّلْطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اَلسُّلْطَانُ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا وَلِيُّهُ بِيَدِهِ. وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ إِدْرِيسَ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: " {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، قَالَ: كَانَ اِبْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لِمَلَكِ اَلْمَوْتِ أَعْوَانٌ مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنِي أَبُو اَلسَّائِبِ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ فِي قَوْلِهِ: " {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، قَالَ: سُئِلَ اِبْنُ عَبَّاسٍ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّ لِمَلَكِ اَلْمَوْتِ أَعْوَانًا مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: " {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، قَالَ: أَعْوَانُ مَلَكِ اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، قَالَ: اَلرُّسُلُ تَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ، وَيَذْهَبُ بِهَا مَلَكُ اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، أَعْوَانُ مَلَكِ اَلْمَوْتِ مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ. [حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} ". قَالَ: أَعْوَانُ مَلَكِ اَلْمَوْتِ مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، قَالَ: هُمُ اَلْمَلَائِكَةُ أَعْوَانُ مَلَكِ اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، قَالَ: إِنَّ مَلَكَ اَلْمَوْتِ لَهُ رُسُلٌ، فَيُرْسِلُ وَيُرْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَقَالَ اَلْكَلْبِيُّ: إِنَّ مَلَكَ اَلْمَوْتِ هُوَ يَلِي ذَلِكَ، فَيَدْفَعُهُ، إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، إِلَى مَلَائِكَةِ اَلرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا إِلَى مَلَائِكَةِ اَلْعَذَابِ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، قَالَ: يَلِي قَبْضَهَا اَلرُّسُلُ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إِلَى مَلَكِ اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: " تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، قَالَ: تَتَوَفَّاهُ اَلرُّسُلُ، ثُمَّ يَقْبِضُ مِنْهُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلْأَنْفُسَ قَالَ اَلثَّوْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي اَلْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: هُمْ أَعْوَانٌ لِمَلَكِ اَلْمَوْتِ قَالَ اَلثَّوْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جُعِلَتِ اَلْأَرْضُ لِمَلَكِ اَلْمَوْتِ مِثْلَ اَلطَّسْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، وَجُعِلَتْ لَهُ أَعْوَانٌ يَتَوَفَّوْنَ اَلْأَنْفُسَ ثُمَّ يَقْبِضُهَا مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، قَالَ: أَعْوَانُ مَلَكِ اَلْمَوْتِ مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: اَلْمَلَائِكَةُ أَعْوَانُ مَلَكِ اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، قَالَ: يَتَوَفَّوْنَهُ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهُ إِلَى مَلَكِ اَلْمَوْتِ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ اَلرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَلَكِ اَلْمَوْتِ، أَهْوَ وَحْدَهُ اَلَّذِي يَقْبِضُ اَلْأَرْوَاحَ، قَالَ: هُوَ اَلَّذِي يَلِي أَمْرَ اَلْأَرْوَاحِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}؟ [سُورَةُ اَلْأَعْرَافِ: 37]. وَقَالَ: " {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، غَيْرَ أَنَّ مَلَكَ اَلْمَوْتِ هُوَ اَلَّذِي يَسِيرُ، كُلُّ خُطْوَةِ مِنْهُ مِنَ اَلْمَشْرِقِ إِلَى اَلْمَغْرِبِ. قُلْتُ: أَيْنَ تَكُونُ أَرْوَاحُ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: عِنْدَ اَلسِّدْرَةِ فِي اَلْجَنَّةِ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ شَعَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا وَمَلَكُ اَلْمَوْتِ يُطِيفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى " اَلتَّفْرِيطِ "، اَلتَّضْيِيعُ، فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ اَلْمُتَأَوِّلُونَ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ. حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "، يَقُولُ: لَا يَضِيعُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ "، قَالَ: لَا يُضَيِّعُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلَاهُمُ اَلْحَقِّ أَلَّا لَهُ اَلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ اَلْحَاسِبِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ رُدَّتِ اَلْمَلَائِكَةُ اَلَّذِينَ تَوَفَّوْهُمْ فَقَبَضُوا نُفُوسَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ، إِلَى اَللَّهِ سَيِّدِهِمُ اَلْحَقِّ، " أَلَّا لَهُ اَلْحُكْمُ "، يَقُولُ: أَلَّا لَهُ اَلْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ " {وَهُوَ أَسْرَعُ اَلْحَاسِبِينَ} "، يَقُولُ: وَهُوَ أَسْرَعُ مَنْ حَسَبَ عَدَدَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ وَآجَالَكُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِكُمْ، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، وَأَحْصَاهَا، وَعَرَّفَ مَقَادِيرَهَا وَمَبَالِغَهَا، لِأَنَّهُ لَا يُحْسَبُ بِعَقْدِ يَدٍ، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، {وَ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَلَا فِي اَلْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سُورَةُ سَبَأٍ: 3].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ، اَلدَّاعِينَ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ: مَنِ اَلَّذِي يُنْجِيكُمْ "مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ "، إِذَا ضَلَلْتُمْ فِيهِ فَتَحَيَّرْتُمْ، فَأَظْلَمَ عَلَيْكُمُ اَلْهُدَى وَالْمَحَجَّةُ وَمِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَحْرِ إِذَا رَكِبْتُمُوهُ، فَأَخْطَأْتُمْ فِيهِ اَلْمَحَجَّةُ، فَأَظْلَمَ عَلَيْكُمْ فِيهِ اَلسَّبِيلُ، فَلَا تَهْتَدُونَ لَهُ غَيْرَ اَللَّهِ اَلَّذِي إِلَيْهِ مَفْزَعُكُمْ حِينَئِذٍ بِالدُّعَاء" تَضَرُّعًا "، مِنْكُمْ إِلَيْهِ وَاسْتِكَانَةً جَهْرًا "وَخُفْيَةً "، يَقُولُ: وَإِخْفَاءً لِلدُّعَاءِ أَحْيَانًا، وَإِعْلَانًا وَإِظْهَارًا تَقُولُونَ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ يَا رَبٌّ أَيْ مِنْ هَذِهِ اَلظُّلُمَاتِ اَلَّتِي نَحْنُ فِيهَا" لِنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ "، يَقُولُ: لَنَكُونَنَّ مِمَّنْ يُوَحِّدُكَ بِالشُّكْرِ، وَيُخْلِصُ لَكَ اَلْعِبَادَةَ، دُونَ مَنْ كُنَّا نُشْرِكُهُ مَعَكَ فِي عِبَادَتِكَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} "، يَقُولُ: إِذَا أَضَلَّ اَلرَّجُلُ اَلطَّرِيقَ، دَعَا اَللَّهَ: " {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ} ". حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ} "، يَقُولُ: مِنْ كَرْبِ اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلِ اَللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ سِوَاهُ مِنَ اَلْآلِهَةِ، إِذَا أَنْتَ اسْتَفْهَمْتَهُمْ عَمَّنْ بِهِ يَسْتَعِينُونَ عِنْدَ نُزُولِ اَلْكَرْبِ بِهِمْ فِي اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ: اَللَّهُ اَلْقَادِرُ عَلَى فَرَجِكُمْ عِنْدَ حُلُولِ اَلْكَرْبِ بِكُمْ، يُنْجِيكُمْ مِنْ عَظِيمِ اَلنَّازِلِ بِكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ هَمِّ اَلضَّلَالِ وَخَوْفِ اَلْهَلَاكِ، وَمِنْ كَرْبِ كُلِّ سِوَى ذَلِكَ وَهَمٍّ لَا آلِهَتُكُمُ اَلَّتِي تُشْرِكُونَ بِهَا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَا أَوْثَانُكُمُ اَلَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ، اَلَّتِي لَا تَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ تَفْضِيلِهِ عَلَيْكُمْ بِكَشْفِ اَلنَّازِلِ بِكُمْ مِنَ اَلْكَرْبِ، وَدَفْعِ اَلْحَالِ بِكُمْ مِنْ جَسِيمِ اَلْهَمِّ، تَعْدِلُونَ بِهِ آلِهَتكُمْ وَأَصْنَامَكُمْ، فَتُشْرِكُونَهَا فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ. وَذَلِكَ مِنْكُمْ جَهْلٌ بِوَاجِبِ حَقِّهِ عَلَيْكُمْ، وَكُفْرٌ لِأَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ، وَتَعَرُّضٌ مِنْكُمْ لِإِنْزَالِ عُقُوبَتِهِ عَاجِلًا بِكُمْ.
|